عند اشتِداد البلاء يأتي الرخاء
قال مالك بن دينار: "ما أقرب النَّعيم من البؤس! يعقبان ويوشكان زوالا"،
وهي سنَّة الله في خلْقِه، وأمرُه الغالب على كونه، سبحانه! أليس هو القائل:
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]؟
فلا بدَّ - إذن - أن تظهر للعيان تجلِّيات قدرتِه على عباده، والخلْق يتقلَّبون بين أضداد المعاني، فيمسُّهم البكاء عند الحزْن في الأزمات، وتسعدُهم البسمات عند حدوث الغير في المسرَّات، بإذن مالك القلوب ومصرِّفها.
والحقيقة التي لا يتسنَّى لها أن تغيب أنَّه عندما يشتدُّ البلاء، فهذا إعلام منه بقرب وداعه وانصرافه، فيا صاحب البلوى الزائرة، لا يزعجنَّك الخطب الموسوم بالوداع مهْما كان بأسه، بل ارجُ منه النفْع من موطن المنْع، فمن مُلَحِ العرب: "إنَّ في الشَّرِّ خيارًا"، ومن يدري؟
قال بعض الحكماء: "عواقب الأمور تتشابه في الغيوب، فربَّ محبوبٍ في مكروهٍ، ومكروه في محبوب، وكم مغبوطٍ بنعمة هي داؤُه، ومحرومٍ من دواءٍ حِرْمانُه فيه شفاؤُه، وربَّ خيرٍ من شر، ونفع من ضر"[1].
وقال وداعة السَّهمي في كلام له: "اصبر على الشَّرِّ إن قدحك، فربَّما أجلى عمَّا يفرحك، وتَحت الرغوة اللبن الصريح"[2].
هل للمصائب فوائد؟
ذكروا عن الفضل بن سهل: أنَّه كان يتميَّز بسَعة العلم والكرم، وكان قد أكرمه الله أن برِئَ من علَّة كان فيها، فجلس للنَّاس وهنَّؤوه بالعافية، فلمَّا فرغ الناس من كلامِهم قال: "إنَّ في العلل
لنعمًا لا ينبغي لعاقِلٍ أن يَجهلها:
تمحيص للذنب، وتعرُّض لثواب الصبر، وإيقاظٌ من الغفلة، وإذْكار بنعمة الله في حالة الصحَّة، واستدعاءٌ للمثوبة، وحضٌّ على الصدقة، وفي قضاء الله وقدرِه بعدُ الخيار"[3].
نعم:
قَدْ يُنْعِمُ اللَّهُ بِالبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ القَوْمِ بِالنِّعَمِ
فالابتِلاء في الأبدان مصيبةٌ في حدِّ ذاته، ولكنَّه أيضًا علامةٌ - إن شاءَ الله - على حبِّ الله تعالى، وبابٌ من أبواب رفْعة الأُجور والدَّرجات؛ ففي الحديث: ((إذا أحبَّ الله - تعالى - عبدًا ابتلاه، فإنْ صبَر اجْتباه، فإن رضي اصطفاه))؛ أخرجه العراقي في "الإحياء" (5/64) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بسند ضعيف.
ومن بديع المأثور عن محمَّد بن الحنفيَّة: أنَّه كتب إلى عبدالله بن عباس: "أمَّا بعد، فقد بلغني أنَّ ابن الزُّبير سيَّرك إلى الطائف، فأحدثَ الله - عزَّ وجلَّ - لك بذلك أجرًا، وحطَّ به عنك وزرًا، يا ابن عمِّ، إنَّما يُبتلى الصَّالحون، وتعدُّ الكرامة للأخيار، ولو لم تُؤْجَر إلا فيما تحبُّ لقلَّ الأجر، وقد قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} [البقرة: 216] عزم الله لنا ولك بالصَّبر على البلاء، والشُّكر على النعماء، ولا أشْمَتَ بنا وبك الأعداء، والسلام"[4].
قوارب النجاة من أمواج الأحزان والأنكاد
وفي قلْب المِحن يأرز المؤمنُ إلى إيمانه، ذلك الركن الشديد الذي يمدُّه بطاقات المصابرة على البلاء مهْما تعاظم حجمُه، ويحتويه اليقين الغامر بين جوانحِه أنَّه في كنف الله - تعالى - مشمولاً برحمته التي تُجير من المهالك والفِتن، وأنَّه مادامت الأمور كلُّها تصير إلى الله - تعالى - فقد اقترب الأوان عن انبِلاج الفجْر بالأمل السعيد.
فأوَّل قوارب النَّجاة هو حسنُ الظَّنِّ بالله - تعالى - القائل في الحديث القدسي: ((أنا عند ظنِّ عبدي بي))؛ صحيح البخاري (7010) عن أبي هُريْرة - رضي الله تعالى عنه - فمن ظنَّ بالله خيرًا، وافاه اللهُ به، بل كان الله - تعالى - بكلِّ خيرٍ أسرع.
ومن هداية الإيمان في وقْت المحن: أن يوفَّق العبد المُبتلى إلى الدُّعاء الذي يمثل العبادة كلَّها، كما ورد في أحاديثِ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فالدُّعاء علامة إيمان وحسن يقين، ثمَّ إنَّ العبد معدوم بطَوْلِه وحَوْلِه لِقاءَ حَوْلِ الله وطَوْلِهِ، فماذا تُغني الحِيَلُ إن فات العبدَ تيسير ومعونةُ ربِّه ومولاه؟!
إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللَّهِ لِلْفَتَى فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم: ((ما أصابَ مُسلمًا قطُّ همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهُمَّ إني عبدُك وابنُ عبدِك وابنُ أَمَتِك، ناصيتي في يدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لكَ، سمَّيتَ به نفسَك، أو أنزلْتَه في كتابِك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أوِ استأثرْتَ به في علم الغيْبِ عندَك، أن تَجعل القُرآن ربيعَ قلْبي، وجلاء حُزْني، وذَهاب همِّي، إلاَّ أذهب الله كرْبَه وأبْدَله مكانَ حزنِه فرحًا))،
قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلَّم هذه الكلماتِ؟ قال: ((بلى، ينبغي لِمَن سمِعَهنَّ أن يتعلمهنَّ))؛ صحيح ابن حبَّان (977).
وقد رأى النَّبيُّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - صحابيَّه الجليل أبا أمامة - رضي الله تعالى عنه - في المسجِد، فقال:
((يا أبا أُمامة، ما لي أراك في المسجِد في غير وقت صلاة؟))
فقال: هموم لزِمَتْني وديون يا رسول الله، فقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:
((أفلا أُعلِّمك كلامًا إذا أنت قلتَه أذهبَ الله - عزَّ وجلَّ - همَّك وقضى عنْك دَيْنَك؟)) قال: قلت: بلى يا رسولَ الله،
قال: ((قُلْ إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ: اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من الهمِّ والحزَن، وأعوذ بك من العجْز والكسَل، وأعوذ بك من الجُبْن والبُخل، وأعوذ بك من غلَبة الدَّين وقهْر الرِّجال))، قال: ففعلتُ ذلك فأذهبَ الله - عزَّ وجلَّ – همِّي، وقضى عنِّي ديْني؛ سنن أبي داود (1365) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه.
ومن عواصم الفِتن: تلك الصلاة، راحة النُّفوس الكليلة، ودواء القلوب الجريحة بأنْكاد الحياة، وكيف لا، وهذه منزِلَتُها العظمى في حياة النَّبيِّ الكريم - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الذي كان يقول لمؤذِّنه بلال حين وقْت إقامتها: ((أرِحْنا بها يا بلال))؛ المعجم الكبير للطبراني (6092) ضمن حديث طويل؟!
فأسْقام القلوب تزولُ بالصَّلاة، بل يمنح الله بها عباده راحةً لا يَجدون لها شبيهًا إلا في الصَّلاة؛ ولهذا فقد ورد عن النَّبيِّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - قوله: ((وجعل قرَّة عيني في الصَّلاة))؛ الإمام أحمد في "المسند" (12105) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه.
فبعد أداء الصلاة تنشرِح الصُّدور ويعمُّها البِشْر والفرَح بدل الهمِّ والغمِّ، وتنشط بها الأبدان، وتسمو بها الأرْواح، وتسعد بها الجماعة المؤمنة المنتظِمة في عقْد الأخوَّة.
ولا شكَّ أن القرآن الكريم هو المنهل العذب السخيُّ، الذي يمد الأرواح بالاطمئنان وانشراح الصدر؛ قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
فمطالعة القرآن الكريم من أسباب زوال الأنْكاد والمِحَن مهما كان حجمها ووقعها؛ لأنَّ هذا الكتاب ذاخرٌ بألوان الإعْجاز الشَّامل وفي كلِّ مَجال بشكل لا يحدُّ؛ لأنَّه كلام الله تعالى، ومن الجانب النفسيِّ خيْراتٌ حسانٌ للمؤمنين؛ قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].
ومن أسباب زوال الأنْكاد: المداومة على ذِكْر الله تعالى، فالعبد الذَّاكر في كنف مولاه، تحلِّق رُوحه المتألِّقة بنور الذِّكْر في آفاق الملكوت، ويشعُر الذَّاكر دائمًا بإحساس القُرْب من ربِّه، فأنَّى تصيبُه مكائد الأحزان؟! فالذِّكْر يزيل الهمَّ، ويشرح الصدْر، ويسمو بالوجدان، ويملأ النفس غنًى وسعادة، مهما تراقصت مِحَن الحياة على واقع الأرض.
ومن زوال الهمِّ: أن يُسافر المبتلَى عن أرض البلاء، وأن يتخيَّر صُحبة الصالحين، وأن يُقيم نفسَه في عملٍ جادٍّ يُنْسِيه أحزانَه ويستغرق معظم وقْتِه؛ حتَّى لا تفترِسَه بنات الأفكار، وتُغْرِقه في بِحار التَّفكير الدَّؤوب في عمْق مُصيبته، وأن يُحاول تغْيير الواقع الذي يَجذبه دائمًا إلى تذكُّر ما ألمَّ به من الأكْدار.
وأخيرًا:
أيُّها المبتلى، أَدِمِ الفكرة بالأمل في غدٍ مشرق سعيد، وقد رفع الله عنْكَ أوْزار الأحزان، وأذهب أسباب الأنْكاد، وبسط لك أدراجَ السَّعادة والرضا.
هكذا كان النَّبيُّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - يلفت أنظار أصحابِه الكرام إلى توقُّع ذهاب المضايق والمحن؛ لأنَّها على جناح سفر؛ فعن خبَّاب بن الأرتِّ - رضي الله عنه - يقول: أتيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو متوسد بردة في ظلِّ الكعبة، وقد لقِينا من المشركين شدَّة شديدة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا، فقعدَ وهو محمرٌّ وجهُه، فقال: ((إنَّ مَن كان قبلَكم ليمشَّط بأمشاط الحديد ممَّا دون عظامِه من لحم أو عصب، لا يصرِفُه ذلك عن دينه، ويُوضع المنشار على مفرق رأسِه، فيشقُّ باثنَين لا يصرِفُه ذلك عن دينِه، وليُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتَّى يسير الرَّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله))، زاد بيان: ((والذئب على غنمه))؛ النسائي في السنن (4773).
نقلة نفسيَّة هائلة تلك التي يُحْدثها أثر هذا الكلام الطيِّب في نفوس الصَّحابة الكرام، من الأذى والاستِضْعاف إلى زمن التَّمكين القادم في بطْن الأحداث، وهو لا محالة قادم، وقد تخيَّله الصَّحابة الكرام وعاشوا مجْدَ هذه اللَّحظات السَّعيدة، مع أنَّ قسوة كيد الكافرين ما زالت تَرميهم بالغصص.
وقد ذكر شيخُنا الغزالي - رحِمه الله تعالى - في "جدد حياتك" ما يُفيد: أنَّ رجلين في السِّجْن كانا يتطلَّعان خارج أسوارِه إلى دنيا الأحرار، وكان الجوُّ ماطرًا، فنظر أحدُهُما إلى الأرض فوجدها زلقةً مبتلَّة صعبة، فكره الخروج من سجنِه؛ بل عدَّه نعمة، ونظر الآخرُ إلى السماء فوجدها بلا سُحُب، خالية من إرْهاق البرق وإزْعاج الرعد، وقد أرهفت الأنفاسَ نسائِمُ صَافِيةٌ، فتمنَّى الخروج من سجنه.
تمنَّى حريَّته، وربَّما أنَّ أحلامه ساقتْه إلى تخيُّل ذلك، وهو ما زال يرسُفُ في أغلال سجنِه بين جدران أربع.
فلا بأس، انتظروا الفرجَ - أيُّها المبتلون - وأنتم في قلْب المحَن وودِّعوا الأحزان؛ لأنَّ أنكاد الدنيا كلّها مفارقةٌ وعلى جناح سفر.
ونسأل الله - تعالى - أن يُجيرَنا من خزْيِ الدُّنيا وعذاب الآخرة.
قال مالك بن دينار: "ما أقرب النَّعيم من البؤس! يعقبان ويوشكان زوالا"،
وهي سنَّة الله في خلْقِه، وأمرُه الغالب على كونه، سبحانه! أليس هو القائل:
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]؟
فلا بدَّ - إذن - أن تظهر للعيان تجلِّيات قدرتِه على عباده، والخلْق يتقلَّبون بين أضداد المعاني، فيمسُّهم البكاء عند الحزْن في الأزمات، وتسعدُهم البسمات عند حدوث الغير في المسرَّات، بإذن مالك القلوب ومصرِّفها.
والحقيقة التي لا يتسنَّى لها أن تغيب أنَّه عندما يشتدُّ البلاء، فهذا إعلام منه بقرب وداعه وانصرافه، فيا صاحب البلوى الزائرة، لا يزعجنَّك الخطب الموسوم بالوداع مهْما كان بأسه، بل ارجُ منه النفْع من موطن المنْع، فمن مُلَحِ العرب: "إنَّ في الشَّرِّ خيارًا"، ومن يدري؟
قال بعض الحكماء: "عواقب الأمور تتشابه في الغيوب، فربَّ محبوبٍ في مكروهٍ، ومكروه في محبوب، وكم مغبوطٍ بنعمة هي داؤُه، ومحرومٍ من دواءٍ حِرْمانُه فيه شفاؤُه، وربَّ خيرٍ من شر، ونفع من ضر"[1].
وقال وداعة السَّهمي في كلام له: "اصبر على الشَّرِّ إن قدحك، فربَّما أجلى عمَّا يفرحك، وتَحت الرغوة اللبن الصريح"[2].
هل للمصائب فوائد؟
ذكروا عن الفضل بن سهل: أنَّه كان يتميَّز بسَعة العلم والكرم، وكان قد أكرمه الله أن برِئَ من علَّة كان فيها، فجلس للنَّاس وهنَّؤوه بالعافية، فلمَّا فرغ الناس من كلامِهم قال: "إنَّ في العلل
لنعمًا لا ينبغي لعاقِلٍ أن يَجهلها:
تمحيص للذنب، وتعرُّض لثواب الصبر، وإيقاظٌ من الغفلة، وإذْكار بنعمة الله في حالة الصحَّة، واستدعاءٌ للمثوبة، وحضٌّ على الصدقة، وفي قضاء الله وقدرِه بعدُ الخيار"[3].
نعم:
قَدْ يُنْعِمُ اللَّهُ بِالبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ القَوْمِ بِالنِّعَمِ
فالابتِلاء في الأبدان مصيبةٌ في حدِّ ذاته، ولكنَّه أيضًا علامةٌ - إن شاءَ الله - على حبِّ الله تعالى، وبابٌ من أبواب رفْعة الأُجور والدَّرجات؛ ففي الحديث: ((إذا أحبَّ الله - تعالى - عبدًا ابتلاه، فإنْ صبَر اجْتباه، فإن رضي اصطفاه))؛ أخرجه العراقي في "الإحياء" (5/64) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بسند ضعيف.
ومن بديع المأثور عن محمَّد بن الحنفيَّة: أنَّه كتب إلى عبدالله بن عباس: "أمَّا بعد، فقد بلغني أنَّ ابن الزُّبير سيَّرك إلى الطائف، فأحدثَ الله - عزَّ وجلَّ - لك بذلك أجرًا، وحطَّ به عنك وزرًا، يا ابن عمِّ، إنَّما يُبتلى الصَّالحون، وتعدُّ الكرامة للأخيار، ولو لم تُؤْجَر إلا فيما تحبُّ لقلَّ الأجر، وقد قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} [البقرة: 216] عزم الله لنا ولك بالصَّبر على البلاء، والشُّكر على النعماء، ولا أشْمَتَ بنا وبك الأعداء، والسلام"[4].
قوارب النجاة من أمواج الأحزان والأنكاد
وفي قلْب المِحن يأرز المؤمنُ إلى إيمانه، ذلك الركن الشديد الذي يمدُّه بطاقات المصابرة على البلاء مهْما تعاظم حجمُه، ويحتويه اليقين الغامر بين جوانحِه أنَّه في كنف الله - تعالى - مشمولاً برحمته التي تُجير من المهالك والفِتن، وأنَّه مادامت الأمور كلُّها تصير إلى الله - تعالى - فقد اقترب الأوان عن انبِلاج الفجْر بالأمل السعيد.
فأوَّل قوارب النَّجاة هو حسنُ الظَّنِّ بالله - تعالى - القائل في الحديث القدسي: ((أنا عند ظنِّ عبدي بي))؛ صحيح البخاري (7010) عن أبي هُريْرة - رضي الله تعالى عنه - فمن ظنَّ بالله خيرًا، وافاه اللهُ به، بل كان الله - تعالى - بكلِّ خيرٍ أسرع.
ومن هداية الإيمان في وقْت المحن: أن يوفَّق العبد المُبتلى إلى الدُّعاء الذي يمثل العبادة كلَّها، كما ورد في أحاديثِ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فالدُّعاء علامة إيمان وحسن يقين، ثمَّ إنَّ العبد معدوم بطَوْلِه وحَوْلِه لِقاءَ حَوْلِ الله وطَوْلِهِ، فماذا تُغني الحِيَلُ إن فات العبدَ تيسير ومعونةُ ربِّه ومولاه؟!
إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللَّهِ لِلْفَتَى فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم: ((ما أصابَ مُسلمًا قطُّ همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهُمَّ إني عبدُك وابنُ عبدِك وابنُ أَمَتِك، ناصيتي في يدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لكَ، سمَّيتَ به نفسَك، أو أنزلْتَه في كتابِك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أوِ استأثرْتَ به في علم الغيْبِ عندَك، أن تَجعل القُرآن ربيعَ قلْبي، وجلاء حُزْني، وذَهاب همِّي، إلاَّ أذهب الله كرْبَه وأبْدَله مكانَ حزنِه فرحًا))،
قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلَّم هذه الكلماتِ؟ قال: ((بلى، ينبغي لِمَن سمِعَهنَّ أن يتعلمهنَّ))؛ صحيح ابن حبَّان (977).
وقد رأى النَّبيُّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - صحابيَّه الجليل أبا أمامة - رضي الله تعالى عنه - في المسجِد، فقال:
((يا أبا أُمامة، ما لي أراك في المسجِد في غير وقت صلاة؟))
فقال: هموم لزِمَتْني وديون يا رسول الله، فقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:
((أفلا أُعلِّمك كلامًا إذا أنت قلتَه أذهبَ الله - عزَّ وجلَّ - همَّك وقضى عنْك دَيْنَك؟)) قال: قلت: بلى يا رسولَ الله،
قال: ((قُلْ إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ: اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من الهمِّ والحزَن، وأعوذ بك من العجْز والكسَل، وأعوذ بك من الجُبْن والبُخل، وأعوذ بك من غلَبة الدَّين وقهْر الرِّجال))، قال: ففعلتُ ذلك فأذهبَ الله - عزَّ وجلَّ – همِّي، وقضى عنِّي ديْني؛ سنن أبي داود (1365) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه.
ومن عواصم الفِتن: تلك الصلاة، راحة النُّفوس الكليلة، ودواء القلوب الجريحة بأنْكاد الحياة، وكيف لا، وهذه منزِلَتُها العظمى في حياة النَّبيِّ الكريم - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الذي كان يقول لمؤذِّنه بلال حين وقْت إقامتها: ((أرِحْنا بها يا بلال))؛ المعجم الكبير للطبراني (6092) ضمن حديث طويل؟!
فأسْقام القلوب تزولُ بالصَّلاة، بل يمنح الله بها عباده راحةً لا يَجدون لها شبيهًا إلا في الصَّلاة؛ ولهذا فقد ورد عن النَّبيِّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - قوله: ((وجعل قرَّة عيني في الصَّلاة))؛ الإمام أحمد في "المسند" (12105) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه.
فبعد أداء الصلاة تنشرِح الصُّدور ويعمُّها البِشْر والفرَح بدل الهمِّ والغمِّ، وتنشط بها الأبدان، وتسمو بها الأرْواح، وتسعد بها الجماعة المؤمنة المنتظِمة في عقْد الأخوَّة.
ولا شكَّ أن القرآن الكريم هو المنهل العذب السخيُّ، الذي يمد الأرواح بالاطمئنان وانشراح الصدر؛ قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
فمطالعة القرآن الكريم من أسباب زوال الأنْكاد والمِحَن مهما كان حجمها ووقعها؛ لأنَّ هذا الكتاب ذاخرٌ بألوان الإعْجاز الشَّامل وفي كلِّ مَجال بشكل لا يحدُّ؛ لأنَّه كلام الله تعالى، ومن الجانب النفسيِّ خيْراتٌ حسانٌ للمؤمنين؛ قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].
ومن أسباب زوال الأنْكاد: المداومة على ذِكْر الله تعالى، فالعبد الذَّاكر في كنف مولاه، تحلِّق رُوحه المتألِّقة بنور الذِّكْر في آفاق الملكوت، ويشعُر الذَّاكر دائمًا بإحساس القُرْب من ربِّه، فأنَّى تصيبُه مكائد الأحزان؟! فالذِّكْر يزيل الهمَّ، ويشرح الصدْر، ويسمو بالوجدان، ويملأ النفس غنًى وسعادة، مهما تراقصت مِحَن الحياة على واقع الأرض.
ومن زوال الهمِّ: أن يُسافر المبتلَى عن أرض البلاء، وأن يتخيَّر صُحبة الصالحين، وأن يُقيم نفسَه في عملٍ جادٍّ يُنْسِيه أحزانَه ويستغرق معظم وقْتِه؛ حتَّى لا تفترِسَه بنات الأفكار، وتُغْرِقه في بِحار التَّفكير الدَّؤوب في عمْق مُصيبته، وأن يُحاول تغْيير الواقع الذي يَجذبه دائمًا إلى تذكُّر ما ألمَّ به من الأكْدار.
وأخيرًا:
أيُّها المبتلى، أَدِمِ الفكرة بالأمل في غدٍ مشرق سعيد، وقد رفع الله عنْكَ أوْزار الأحزان، وأذهب أسباب الأنْكاد، وبسط لك أدراجَ السَّعادة والرضا.
هكذا كان النَّبيُّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - يلفت أنظار أصحابِه الكرام إلى توقُّع ذهاب المضايق والمحن؛ لأنَّها على جناح سفر؛ فعن خبَّاب بن الأرتِّ - رضي الله عنه - يقول: أتيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو متوسد بردة في ظلِّ الكعبة، وقد لقِينا من المشركين شدَّة شديدة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا، فقعدَ وهو محمرٌّ وجهُه، فقال: ((إنَّ مَن كان قبلَكم ليمشَّط بأمشاط الحديد ممَّا دون عظامِه من لحم أو عصب، لا يصرِفُه ذلك عن دينه، ويُوضع المنشار على مفرق رأسِه، فيشقُّ باثنَين لا يصرِفُه ذلك عن دينِه، وليُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتَّى يسير الرَّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله))، زاد بيان: ((والذئب على غنمه))؛ النسائي في السنن (4773).
نقلة نفسيَّة هائلة تلك التي يُحْدثها أثر هذا الكلام الطيِّب في نفوس الصَّحابة الكرام، من الأذى والاستِضْعاف إلى زمن التَّمكين القادم في بطْن الأحداث، وهو لا محالة قادم، وقد تخيَّله الصَّحابة الكرام وعاشوا مجْدَ هذه اللَّحظات السَّعيدة، مع أنَّ قسوة كيد الكافرين ما زالت تَرميهم بالغصص.
وقد ذكر شيخُنا الغزالي - رحِمه الله تعالى - في "جدد حياتك" ما يُفيد: أنَّ رجلين في السِّجْن كانا يتطلَّعان خارج أسوارِه إلى دنيا الأحرار، وكان الجوُّ ماطرًا، فنظر أحدُهُما إلى الأرض فوجدها زلقةً مبتلَّة صعبة، فكره الخروج من سجنِه؛ بل عدَّه نعمة، ونظر الآخرُ إلى السماء فوجدها بلا سُحُب، خالية من إرْهاق البرق وإزْعاج الرعد، وقد أرهفت الأنفاسَ نسائِمُ صَافِيةٌ، فتمنَّى الخروج من سجنه.
تمنَّى حريَّته، وربَّما أنَّ أحلامه ساقتْه إلى تخيُّل ذلك، وهو ما زال يرسُفُ في أغلال سجنِه بين جدران أربع.
فلا بأس، انتظروا الفرجَ - أيُّها المبتلون - وأنتم في قلْب المحَن وودِّعوا الأحزان؛ لأنَّ أنكاد الدنيا كلّها مفارقةٌ وعلى جناح سفر.
ونسأل الله - تعالى - أن يُجيرَنا من خزْيِ الدُّنيا وعذاب الآخرة.
0 commentaires: