كيف نجعل إتصالنا بالآخرين جيداً؟

في زمان شديد التعقيد كزماننا، صار من الضروري ألّا نركن إلى أساليبنا العفوية والفطرية في العيش؛ فالوسط المعقّد لابدّ أن يواجَه بأسلوب عيش يكافئه، وإلا فإنّ النتائج ستكون وخيمة. ولعلّنا نذكر هنا بعض الأسس والمبادئ والتقنيات التي تساعدنا على تحقيق إتِّصال جيِّد ومثمر لنا، ولمن نتّصل به، وذلك من خلال الكلمات التالية:
1- تكوين الإنطباع الأولي:
حين نلتقي بشخص أوّل مرّة، فإنّه يكون حريصاً على أن يكوّن عنّا إنطباعاً أوّلياً، يتّخذ منه رأس جسر لطريقة تعامله معنا فيما بعد. هذا الإنطباع الأولي، يُستقى من أمور ظاهرة وشكلية في الغالب، لكنّه مهم جدّاً.
ولا أريد هنا أن أدعو إلى التصنّع في علاقاتنا، ولكن أودّ أن ندرّب أنفسنا على تجنّب المظهر المكروه لدى الناس، ومفاجأة الجليس بأمور لا يرغب فيها، وهذا ممّا أدَّبنا به الإسلام.
إنّ حرصنا على تكوين إنطباع أوّلي جيِّد عنّا يدل على وجود شفافية، كما أنّه يشير إلى الأفق الذي بإمكاننا الإرتقاء إليه. وهناك كلام كثير حول ما يجعل أحدنا لائقاً في عين أخيه من الوهلة الأولى، نذكر هنا بعضه:
- ليس الثياب التي تناسب الموقف من غير مبالغة، فالثياب التي تُلبَس في الأعراس والمناسبات أو مقابلة شخصية مهمّة غير تلك التي يلبسها الإنسان للعمل أو التسويق أو النزهات.
- ابدأ لقاءك بالإبتسام، واعمل أن يتم الإتِّصال البصري بينك وبين مَن تقابله من خلال النظر إلى جهته، وليس أسفل أو إلى جهة أخرى، ولكن لا تثبّت عينك فيه؛ فالمسلم حيي، وتثبيت النظر قد يسبِّب الحرج للآخر.
- ابدأ بالمصافحة، ولا تنزع يدك من يد مَن تصافحه حتى ينزعها هو، أو بحسب ما يقضي به العرف. ولطالما كانت المصافحة مصدراً لبعض الدفء في القلوب.
- لنحاول التجديد في ألفاظ التحية، فبعد إلقاء السلام يمكن للمرء أن يقول عوضاً (مساء الخير): (أسعد الله مساءك) أو يقول: (سعدت بلقائك) عوضاً عن (كيف حالك)... إنّ هذه التجديدات، تترك أثراً في نفس السامع، وتجعله يتوقّع من صاحبها شيئاً جديداً ومفيداً.
- حاول جمع بعض المعلومات عمن تريد مقابلته، وناده بأحب الأسماء إليه، وإذا كان له لقب علمي، فخاطبه به، وحاول في كل حال أن تنطق اسمه على نحو صحيح.
- إذا كان اللقاء في بيتك، فحاول أن تستقبله أمام البيت، وأن تشيّعه في الخروج، وحاول أن تقدّم له من الضيافة والنُّزُل ما تعرف، أو يغلب على ظنك أنّه ينال رضاه واستحسانه.
- استعدّ للِّقاء على نحوٍ جيِّد، وحضّر للموضوع الذي تريد مناقشته، واستحضر في ذهنك ما يمكن أن تجيب به على أسئلة مَن تقابله.
- تقدير ما يطلبه الموقف من حُسن الإستماع، وعدم مقاطعة الجليس، والحرص على أن يكون أحدنا مستمعاً أكثر من كونه متكلّماً ما لم نرَ الحرص ممن نقابله على أن نتكلّم على نحو معيّن؛ فلا بأس آنذاك أن نلبّي رغبته.
إذا لم يوفّق أحدنا إلى ترك انطباع جيِّد لدى مَن قابله في المرّة الأولى، فلا ينبغي أن ييئس، إذ غالباً ما تكون هناك فرصة ثانية لإستدراك ذلك.
2- اِعرف نفسك:
إنّ من محاور الإصلاح والنهوض بحياتنا الإجتماعية المعاصرة، أن يسعى الخيّرون والغيورون فينا إلى محاولة التأثير في الآخرين، وجعلهم ينحازون إلى المبادئ والقيم والأفكار التي يرون أنّها ضرورية للعيش في (الزمان الصعب)، وهذا يتطلّب أن نحسِّن مستوى خبرتنا بأنفسنا بإعتبارنا كائنات إجتماعية، يمثّل الإتِّصال بالنسبة لها مصدراً مهمّاً للنضج والتحقّق الذاتي والإنتشار المعنوي. ومن الوسائل التي تساعد على هذا الهدف ما يلي:
- إخوانك القريبون منّك هم مرآتك الحقيقية، ولاشكّ أنّهم يختزنون العديد من الملاحظات عن طريقة إتِّصالك وتخاطبك وحوارك مع الآخرين. وهم أقدر على تقويمك وإفادتك في هذا الشأن. حتى يقف المرء على ملاحظات إخوانه، فإنّ عليه أن يصوغ العديد من الأسئلة، ويوجّها إليهم من نحو: هل أتّصل بكم بالهاتف في أوقات غير مناسبة؟ هل طريقة كلامي غير مريحة، وهل دخولي في الموضوع الذي أريد التحدّث فيه ملائم، وهل تشعر أن لدي نوعاً من العناد والإصرار على الرأي بغير وجه حق؟ وما شابه ذلك. إذا لم تعجبنا أجوبة إخواننا، ولم نرها مقنعة، فينبغي أن نشكرهم، ولا نقف موقف المدافع.
- يمكن للمرء أن يتعرّف على حُسن إتِّصاله بالآخرين من خلال ردود أفعال الآخرين عليه، فهو يستطيع – إن كان قوي الملاحظة – أن يدرك إن كان يُساء فهمه بكثرة من قِبَل مستمعيه، كما يدرك إن كان يُغضب محاوره، كما يدرك إن كان لا يحسن الإصغاء، أو إن كان يقاطع محدّثه قبل أن ينتهي حديثه... وبمقدار ما تكون ملاحظتنا لسلوكنا عند الإتِّصال قوية ومنظّمة، يتحسّن مستوى إتِّصالنا، ونستغني عن سماع ملاحظات الإخوة والأصدقاء.
- تسجيل الصوت على شريط وسيلة مهمّة لمعرفة أسلوبنا في الإتِّصال، حيث يتم التعرّف على طريقة نطق الكلمات، وسرعة الحديث ونغمة الصوت، ومدى تنوّعها أثناء الحديث... ويمكن للمرء أن يقوم بمحاولات تحسينية لكل ذلك. وعلى المرء أن يكون مستعدّاً للمفاجأة حين يتفحّص حين يتفحّص صوته أوّل مرة، فربّما لن يكون مرتاحاً له.
3- الدقة في إستخدام اللغة:
للغة مستويات عديدة، وكل واحد من الناس يستخدم مستوى منها؛ فهناك كلمات لها معنى حقيقي، وآخر مجازي، وكلمات لها معنى معجمي ومعنى عامي دارج؛ كما أنّ هناك كلمات ذات معانٍ غريبة، لا يعرفها إلّا المختصون والمهتمون.
أضف إلى هذا أنّ الكلمات، ليست وحدها هي التي تحمل المعاني التي نرسلها؛ فقد دلّت دراسة قام بها فريق من الباحثين البريطانيين أنّنا حين نتحدّث مع شخص وجهاً لوجه، فإنّ الكلمات هي العنصر الأضعف في إيصال المعلومات إليه؛ إذ لا تحمل سوى (7%)، على حين أنّ النبرة الصوتية تحمل (38%)، وتحمل تعبيرات الجسم (55%). وفي كثير من الأحيان نلغي وظيفة الكلمات في الدلالة حين تتعارض مع تعبيرات الجسم، فقد يخبرنا صديق بخبرٍ ما فلا نصدقه، ونقول: عيناك تقولان غير ذلك. وإذا رأينا شخصاً ممتقع اللون، فإنّنا لن نصدّق كل عبارات الطمأنة التي نسمعها منه، ونصرّ على أن مكروهاً قد وقع، وهكذا...
من المهم أن يكون هناك إنسجام بين معاني الكلمات ونبرة الصوت وتعبيرات الجسم فذاك يجعل رسائلنا في غاية الوضوح، وهناك أمور عدة تجب مراعاتها في هذا الشأن، نذكر منها الآتي:
- البلاغة أن نستخدم أسلوباً، يناسب السامع، وتتناغم كلماته مع معانيه؛ وكثيراً ما نخطئ في تصوّر الإمكانات اللغوية لمن نخاطبه، فتضل رسالتنا طريقها إليه، أو تفقد جزءاً من تأثيرها، وقد تكون سبباً في حدوث سوء تفاهم، نحن في غنى عنه.
ومن المعروف أن لكل أصحاب تخصّص، وكل أصحاب مهنة بعض المفردات الخاصّة بمجالهم؛ وحين نستخدم تلك المفردات في خطاب عام، فإنّها سوف تستغلق على كثير من السامعين؛ ولذا فلابدّ من اصطناع لغة ملائمة لمن نتحدّث معه. بعض الناس يعلِّم العربية، ولذا فإن يشيع في كلامه المجاز والتورية والإستعارة، وهذا يعكر صفو الفهم لدى غير المختص. وبعض الناس يفهم المراد، لكنّه يفسِّر ذلك على أنّه نوع من الحذلقة والتشدّق، فينبغي الإنتباه لذلك.
بعض الناس يستخدم بعض الكلمات الإنجليزية أو الفرنسية... أثناء حديثه، مع أنّ المرادف العربي حاضر على لسانه وقريب وواضح؛ وهذا في الحقيقة شيء سيِّئ، إذ إنّ ذلك حين يقع في الحديث مع عربي، وفي بيئة عربية، فإنّ المخاطَب سيحمل ذلك على محامل سيِّئة؛ حيث من الممكن أن يظن أن الدافع لذلك هو (التعالم) وإظهار سعة المعرفة والإطلاع. ومن الممكن أن يفسّر ذلك على أنّه نوع من الإستخفاف باللغة الأُم أو المخاطب، كما يمكن أن يُظن أنّ ذلك بسبب ضعف عربية مَن يفعل ذلك...
وبقطع النظر عن كل تلك التفسيرات، فإن الأليق دائماً بنا ألا نستخدم في خطابنا أكثر من لغة واحدة إلا عند الحاجة، حيث لا مصطلحات أو مفردات مقابلة. ونجد من لطف بعض المتحدّثين أنّه يتعذر لمستمعه عند إستخدام كلمة أجنبية؛ إذ من الممكن أن يكون المخاطب غير عارف بمعناها، فيسبب ذلك له الارتباك والإحراج. ويقال مثل ذلك للذين يستخدمون كلمات عامّية مغرقة في عامّيتها، أو ذات سمة لهجية خاصّة؛ ممّا يضطر السامع إلى الإستفسار والإستفهام. بعض الناس يملك حسّاً مرهفاً، فيسأل مخاطبه عن مدلول كلمة لديه قبل أن ينطق بها، فيشيع بذلك جو المودّة، ويعمّق التفاهم.
- كثير من الناس يسيطر عليهم حبّ الكلام والإستفاضة في الحديث غير آبهين بمواقع كلامهم من نفوس سامعيهم، فيسوق النكات والأمثال التي تجرح بعض الحاضرين؛ فقد يسوق أحدهم طرفة تتعلّق بقبيلة أو أهل بلدة أو أهل حرفة، ويكون بعضهم موجوداً. وقد يسوق – مثلاً – قصة أو طرفة أو عِظَة تتعلّق بأهل عاهة من العاهات كالعرج أو العور أو العمى، ويكون بعض المصابين بها حاضراً؛ ممّا يسبب حرجاً بالغاً لهم، وقد يكون ذلك مفتاحاً لخصومات وشرور عريضة، وهو إن لم يكن إثماً في نفسه، فإنّه يجرّ صاحبه إلى الإثم؛ ولذا فلابدّ من الحذر الشديد.
- لا يخفى أنّ التربية التي يتلقّاها الناس في البيوت متفاوتة في درجة رقيّها وتهذيبها، كما أنّ المهن والوظائف التي ينخرط فيها الناس أيضاً متفاوتة، وهذه وتلك تترك آثاراً كبيرة في مستوى الكلام لديهم. وكثير من الناس يندفع في الحديث على سجيته دون أي مراعاة أو تحفّظ، ممّا يجعلهم يخدشون آذان مستمعيهم بكلمات وتعبيرات سوقية مبتذلة، فيكوّنون انطباعات سيِّئة عنهم.
وبقطع النظر عن هذه السلبية، فإنّ من المهم للإنسان أن يرقِّي أسلوب حديثه، وأن يتحرّر من بعض العادات الكلامية التي نشأ عليها، فالتعبير الجميل أدب إسلامي رفيع؛ وفي حديث الشيخين: "لا يقولنّ أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل لقِسَت نفسي".
إنّ الهدف من كل ما ذكرناه ليس النجاح في الإتِّصال فحسب، وإنّما الإرتقاء الذاتي، وعكس كل ذلك على البيئة التي نربي فيها أنفسنا وصغارنا.
4- الإتِّصال عبر الهاتف:
يوفر لدينا الإتِّصال بالهاتف الكثير من الجهد والوقت، ويمكن القول: إنّه لا ينبغي لأي منا أن يخرج من بيته أو عمله لقضاء أي مصلحة، يمكن قضاؤها عن طريق الهاتف أو الناسوخ (الفاكس) أو ما شابه ذلك، فالوقت هو إغلى ما نملك، ويجب أن نتعامل معه بحكمة وحرص.
ولكن الهاتف بإعتباره وسيلة إتِّصال، فإنّ من الممكن أن نستخدمه على نحوٍ يوفّر علينا الكثير، ويمكن أن نستخدمه على نحوٍ نقتل به أوقاتنا أو نجعل منه مصدر إزعاج للآخرين؛ ولذا فإنّ هناك مجموعة من الأفكار والآداب التي تساعدنا على اتّباع الأسلوب الأمثل لإستخدام هذه الوسيلة المهمّة، نسوقها عبر النقاط التالية:
- علينا أن نحدّد التاريخ والوقت المناسب للإتِّصال بالآخرين، فقد يكون وقت إتِّصالنا وقت عمل كثيف بالنسبة لهم أو وقت نوم أو طعام... وعدم الإنتباه، لذلك، سيجعل إتَّصالنا مصدر إزعاج وإرباك بالنسبة لهم، كما أن فرص ردّهم علينا ستكون ضئيلة.
- سيكون من المهم أن نقوم قبل الإتِّصال بتحديد المسائل التي نرغب في الحديث عنها، والنتائج التي نرغب في الوصول إليها أو الأمور التي نود إقناع من هاتفناه بها. وعلينا أن نحاول ألا تخرج المكالمة عما رأينا تحديده قدر الإمكان؛ لأنّ ذلك قد يشتّت ذهن مَن اتّصلنا به، وينسيه الموضوع الأصلي للإتِّصال.
- اللطف مطلوب في السؤال عن الشخص الذي نريد محادثته، وذكر اسم المتّصل مطلوب أيضاً؛ وبعض الناس لا يذكر إسمه، ولكن يطلب ممّن اتّصل به أن يذكر إسمه؛ وهذا منافٍ للأدب؛ لأن الذي بدأ الإتِّصال بمثابة مَن طرق باب غيره، عليه أن يذكر اسمه، ويستأذن ويسلّم. وإذا ردّ على الهاتف شخص غير الذي نودّ محادثته، فمن الأليق أن نسلّم عليه أولاً، وإن كان طفلاً داعبناه، ثمّ نسأله عن إمكانية محادثة مَن نريد محادثته.
عندما يردّ على الهاتف الشخص الذي نرغب في محادثته، فسيكون من اللطف أن نبادر إلى سؤاله: هل هذا وقت مناسب لمحادثته. وعلينا أن نبدي له إستعدادنا للإتِّصال به في وقت آخر. وليس من الملائم أن نقول له: هل أنت مشغول، فقد يكون غير مشغول، ولكن لا يرغب في التحدّث إلى أحد، فنضطره آنذاك إلى الكذب. ولباقة المسلم تمنعه من إحراج الآخرين.
- لنحاول أثناء المحادثة الهاتفية أن نجعل كلماتنا مفعمة بالحيوية والدفء، إذ إنّ كون مَن لا يرانا، يجعل من السهل عليه أن يكوّن عنا بعض الإنطباعات الخاطئة، وينبغي أن نمتنع عن أي عمل أثناء المكالمة؛ لأنّ الطرف الآخر سيدرك أنّنا مشغولون عنه، وأنّنا لا نهتم كثيراً للتحدّث معه؛ وسيكون الإمتناع عن أي عمل أكثر أهمية.
- إذا كان ما سنقوله مهماً أو دقيقاً، فالأفضل عدم الإتّصال بالهاتف وترتيب لقاء لذلك أو إرسال رسالة خطية. وسيكون من المفيد عند إنهاء المكالمة كتابة ما تمّ الإتّفاق عليه إذا كان الحديث يتعلّق بمشروع أو صفقة أو اتّفاق ما؛ فالمرء قد ينسى ما يجب عليه أن يذكره بعد مدة.
قد يُبتلى المرء بأقوام يحبون الثرثرة على الهاتف، ولا يقيمون أي وزن لأوقات الناس ومشاغلهم، وفي هذه الحالة يجب على الواحد منّا أن يكون حكيماً في الإفلات منها، كما كان ابن الجوزي حكيماً في إنجاز بعض الأعمال أثناء زيادة بعض الثقلاء له.
وهناك إجراءات عديدة، تساعد المرء على ذلك؛ منها: إشعار الطرف الآخر أنّ لدينا وقتاً قصيراً للحديث معه، كأن يقول أحدنا: عندي وقت قصير للحديث معك، فأرجو أن تسمح لي بدقيقتين من وقتك. ومنها ألّا يسمح للحديث بالخروج عن الموضوع الذي تم الإتِّصال من أجله.
بعض الناس يتحدّث واقفاً من أجل الإختصار. وبعضهم ينهي السؤال عن الصحة والأحوال الإجتماعية بأسرع وقت؛ حتى يُشعر الطرف الآخر بإستعجاله. وكل هذا جيِّد ومفيد. وعلى كلّ حال فالحديث في الهاتف ذو جاذبية، وذو إغراء خاص، ولابدّ من أجل المحافظة على الوقت من مقاومة ذلك الإغراء.
5- الخطاب المؤثِّر:
سنظل نستهدف التأثير في غيرنا، وإيصال رسائلنا إليهم على أعلى درجة من القوّة والوضوح؛ فذاك جزء من تحقيق وجودنا المعنوي. وسيكون ذلك أكثر حيوية إذا كان الواحد منّا داعية أو محاضراً أو معلّماً أو سياسياً.
صحيح أنّ مضمون الكلام يستأثر بالتأثير الأساسي، لكن لا ينبغي الإستهانة بالأسلوب والقالب الذي نوصل به ذلك المضمون؛ وكم من سلعة نفيسة أعرضَ عنها الناس لسوء تغليفها أو سوء عرضها. وكم من عالم متبحّر لا يلفت الأنظار إليه؛ لأنّه لا يحسن شيئاً من فنّ الخطاب المؤثر. وكثيراً ما يكون الفارق بين متحدّث ناجح وآخر مخفق هو الإهتمام والحرص على تجويد الخطاب وإتقانه. وإليك بعض الوصايا التي تجعل المخاطبين ينفعلون بما تقول، ويتأثرونه:
- لنختر لمحاضراتنا وأحاديثنا عناوين جذابة ومعاصرة، وذلك من خلال ملامستها لمشكلة يعايشها الناس، أو من خلال علاقتها بحدث، يشغل بالهم، أو من خلال كونها تدل الناس على طريق من طرق النجاح. وعلى الواحد منا أن يتجنّب السجع في العنوان؛ فقد باتت الذائقة الثقافية المعاصرة تمجه، وقد كان مستحبّاً في غابر الأزمان. ولكن يجب أن نكون على حذر من العناوين البرّاقة والجذّابة التي لا تترجم مضمون حديثنا على نحوٍ دقيق، ولا يتطابق معها. كما أنّ علينا أن نحذر من العناوين الكبيرة التي نعجز عن القيام بحقها.
- الإستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأقوال المأثورة مهم جدّاً لإعطاء المصداقية لما نقوله، وعامل مهم في دفع الوحشة عن كلامنا، ولكن لابدّ دائماً من نوع من التوازن بين الإستشهاد والتحليل، كما أنّه لابدّ من الحذر من ليِّ أعناق النصوص وسوقها على نحوٍ متعسّف.
- سيكون من المستحسن دائماً أن نزوّد السامعين بملخص من ورقة أو ورقتين قبل بدء المحاضرة، نضمنه محاور المحاضرة والنقاط الأساسية فيها.
- للأرقام والإحصاءات والجداول سحرها الخاص اليوم، وعلى مقدار ما نضمن محاضرتنا منها يكون تأثيرها وإقناعها، وتكون إثارتها للسامعين؛ وكلّما كانت الأرقام أكثر حداثة، كان وقعها في نفوس السامعين أشد.
- الربط بين الموضوع الذي نتحدّث عنه وبين الأحداث الجارية – إذا كان ممكناً – سيكون مفيداً جدّاً، ولاسيما إذا فعلنا ذلك في بداية المحاضرة؛ حيث يثير إهتمام المستمتعين أكثر فأكثر.
- إستخدام الأسئلة أثناء المحاضرة في محاولة لإشراك الجمهور، والتجديد في الخطاب، ولكن لا ينبغي إنتظار أجوبة عليها، وإنّما المراد إيجاد نقاط إرتكاز مشتركة أثناء الحديث؟ مثل قولنا: "كم يا ترى سنوفِّر على البلاد من مال لو أنّنا جميعاً امتنعنا عن التدخين؟ ومثل: "كيف ستكون الحال لو أن كل واحد منّا التزم ببرنامج قراءة ثلاث ساعات كل يوم؟
- لا بأس بذكر بعض الجهود التي استغرقها إعداد العمل، كالقول: إن مسوَّدات هذه المحاضرة قد بلغت مئة وخمسين صفحة، أو القول: قد عملت في تحضير هذا الموضوع ثلاثة أشهر. وفي المقابل لا بأس بالتحدّث عن خبرات بعض المستمعين والحاضرين بالموضوع، وحاجة المتحدّث إلى بعض ملاحظاتهم حوله.
- إذا استطعت أن يشتمل حديثك على بعض الفكاهة، فافعل؛ لأنّ ذلك سوف يضفي على اللقاء كلّه مسحة جميلة ممتعة، ولكن علينا أن نخشى دائماً الإسراف في ذلك.
- لا تثبت نظرك في الأوراق التي أمامك، وتهمل النظر إلى وجوه القرّاء، فذاك أكبر مصدر للسأم والملل؛ ولكن انظر إلى الجمهور تارة، وإلى أسفل تارة مطرقاً كأنّك تفكّر؛ فذاك يثير في سامعيك التساؤل عمّا تريد قوله.
- تنظيم النقاط والفقر وتسلسلها عاملٌ مهمٌّ في مساعدة المستمعين على الفهم، فينبغي أن نحرص عليه قدر الإمكان. وقد يكون أحسن أسلوب لذلك، هو أن نقسم كل عنوان من العناوين الرئيسة إلى عدد من النقاط، كأنّ نقول: وإليك خمس ملاحظات حول سلبيات الأمر الفلاني؛ أو نقول: إنّ أهم المبادئ التي يمكن إستخدامها في إدارة الذات أربعة وهكذا...
- ولكن لنحاول ما استطعنا ألا نضخّم الأرقام، إذ لا يستحسن أن تزيد على خمسة أو ستة؛ فقدرات السامعين على استيعاب التقسيمات الكثيرة محدوة.
- قد يكون اللجوء إلى تكرار بعض الأفكار أو المقاطع مفيداً في لفت انتباه السامعين إلى ما تعده مهمّاً، وذلك كما لو أنّنا لو كرّرنا قول أحدهم: "إذا لم يكن لك روح عصر كانت لك كل شروره".
- ليكن وضعك الذهني والبدني في أحسن حالاته، فنم جيِّداً قبل المحاضرة، ولا تتناول وجبة دسمة، وحاول تهدئة أعصابك عبر ممارسة شيء من الإسترخاء قبل الحضور إلى مكان المحاضرة.
- لابدّ من مراعاة السرعة المناسبة أثناء الكلام؛ والحدّ الأدنى للسرعة هو (120) كلمة في الدقيقة. وأكثر المتحدّثين، يبلغ متوسّط سرعتهم في الكلام في حدود (200) كلمة. البطء الزائد في الكلام يجعل المستمعين يفقدون التركيز، ويشتت إنتباههم. أمّا السرعة الزائدة، فتجعلهم غير قادرين على المتابعة، وإستيعاب ما يسمعونه.
- احفظ مقدمة محاضرتك على نحوٍ جيِّد، واقرأها مرّات عدة قبل إلقائها، واضبط الكلمات الصعبة بالشكل، وتأكّد في كل الأحوال من أنّك قادر على مراعاة القواعد النحوية أثناء الإلقاء.
- تفاعل مع موضوعك، وأظهر ذلك التفاعل من خلال تعبيرات الوجه وحركات الجسم، فحيوية المحاضر ضرورية لجعل اللقاء كلّه حياً ومثمراً.
- لا تدع التشاؤم يسيطر عليك؛ صوِّر الواقع كما هو، لكن لنزرع الأمل بإمكانية التحسُّن والخلاص بشكل دائم.
- اختتم محاضرتك بملخص مركّز يشتمل على أهم النقاط التي تتناولها. ويمكن أن يكون موضوع (الخاتمة) دعوة توجّهها للمستمعين من أجل إنجاز شيء ما أو الإبتعاد عن أمر من الأمور، أو الإهتمام بقضية من القضايا.
- الإستعداد المسبق لما يتوقّع المرء من أسئلة يطرحها الجمهور، وعدم التردّد في قول: (لا أدري) عندما يأتي سؤال لا يعرف جوابه.
إنّ في أمتنا الكثير الكثير من الخير، وإن لدى مجتمعاتنا توثّباً لعمل شيء ما، لكن الجميع ينتظرون أولئك الذين يدلّونهم على ما يفعلونه، وينظمون وعيهم تجاه مسؤولياتهم؛ وهذا كلّه من مهمات المثقفين المخلصين؛ من محاضرين ناجحين، وخطباء مؤثّرين. والله المستعان.
abuiyad